فصل: تفسير الآيات (44- 50):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التفسير القرآني للقرآن



.تفسير الآيات (44- 50):

{وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ (44) وَتَراهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْها خاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذابٍ مُقِيمٍ (45) وَما كانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِياءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ سَبِيلٍ (46) اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ ما لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَما لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ (47) فَإِنْ أَعْرَضُوا فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ الْبَلاغُ وَإِنَّا إِذا أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسانَ كَفُورٌ (48) لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ ما يَشاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ (49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (50)}.
التفسير:
قوله تعالى: {وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ}.
مناسبة هذه الآية لما قبلها، هي أن الآيات السابقة، عرضت قضية الظلم، وما يقع من بغى الناس بعضهم على بعض، وتوعدت الظالمين الباغين بالعذاب الأليم.. وهنا في هذه الآية، إشارة إلى أن المصدر الأول للظلم والبغي، إنما يأتى من جهة الكفر باللّه، والضلال عن سبيله، وأن الكافرين الظالمين هم الذين لا يجدون للّه وقارا، ولا يخشون له بأسا، فهم لذلك يطلقون العنان لقوى الشر الكامنة فيهم، فيعتدون على حرمات اللّه، وعلى عباد اللّه، في غير تحرج أو تأثم.
فهؤلاء الظالمون المعتدون، هم ممن أضلهم اللّه.. {وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ} أي ليس له نصير ينصره من بعد ضلاله وخذلان اللّه له.
وقوله تعالى: {وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ} هو عرض للظالمين في موقف الحساب والجزاء، وأنهم في هذا الموقف في كرب وبلاء، يتنادون بالويل والثبور، وينظر بعضهم إلى بعض في يأس قاتل، متسائلين: {هَلْ إِلى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ}؟ أي هل هناك من سبيل إلى الخروج مما نحن فيه، والعودة إلى الحياة الدنيا، لنصلح ما أفسدنا، ونعمل صالحا غير الذي كنا نعمل؟ وهيهات هيهات!! قوله تعالى: {وَتَراهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْها خاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذابٍ مُقِيمٍ} أي وفى هذا الموقف- موقف الحساب والجزاء- يرى الرائي، الظالمين وهم يعرضون على النار، ويقفون بين يديها- يراهم خاشعين في مهانة وذلة وضراعة.. {يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ} أي لا يستطيعون أن يفتحوا أبصارهم على هذا الهول الذي يغفر لهم فاه، بل إن أبصارهم ليصعقها هذا الهول، فترتدّ عنه، ويدعوها الخوف منه، ومحاذرة الوقوع ليده، أن تنظر لترى أين موقعها منه، فلا تكاد تلمحه حتى ترتد عنه.. وهكذا تظل أبصارهم مشدودة إلى هذا الهول، تتحسسه، في مخالسة، كما يتحسس الأعمى حية التفت بعنقه.!
قوله تعالى: {وَقالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذابٍ مُقِيمٍ} أي أن المؤمنين حين يرون هذا الموقف الذي يكون عليه الظالمون يوم القيامة.. ينظرون إلى أنفسهم، فيحمدون اللّه أن عافاهم من هذا البلاء، ويقولون فيما يقولون: {إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ} أي أنه ليس خسرانا هذا الخسران الذي يفوت الإنسان من حظوظ الحياة الدنيا، في نفسه، وأهله، وماله.. وإنما الخسران حقّا هو هذا الخسران الذي يلقاه الظالمون في هذا اليوم، حيث قد صفرت أيديهم من كل شيء، وتقطعت بينهم وبين أهليهم الأسباب، فلا يلقاهم أحد من أولادهم وأهليهم إلا معرضا عنهم، مشغولا بنفسه وبما يعانيه- إن كان من أهل النار- أو مشتغلا عنهم بنعيم الجنة، ومنازعة أهلها طيّب الأحاديث، وكئوس النعيم- إن كان من أهل الجنة.
وفى التعبير بالماضي عن حديث المؤمنين في هذا اليوم، إشارة إلى أن هذا الحديث، واقع من نفوس المؤمنين موقع اليقين وهم في هذه الدنيا.. فهم يؤمنون بأن هذا هو الذي لابد أن يكون يوم القيامة.
قوله تعالى: {وَما كانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِياءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ سَبِيلٍ} هو من قول المؤمنين في الآخرة، وهو قولهم في الدنيا، وإيمانهم به.. فالمؤمنون على يقين بأن الظالمين لا نصير لهم، ولا مدافع عنهم في هذا اليوم، فإنهم ممن أضلهم اللّه، وسلك بهم مسالك الطريق إلى جهنم، فليس لهم سبيل إلى طريق آخر إلى غير هذا المورد الذي هم مساقون إليه.
قوله تعالى: {اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ ما لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَما لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ} هو دعوة إلى الظالمين، المنحرفين عن طريق الهدى، أن يستجيبوا لربهم، وأن يقبلوا على ما دعاهم إليه من الإيمان به على لسان رسوله، وذلك {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ} أي لا مرد لهم فيه إلى الحياة الدنيا، وليس لهم فيه من ملجأ يفرون إليه من هذا العذاب المحيط بهم فيه، وليس لهم في هذا اليوم من يقوم فيهم مقام المنكر عليهم، ما هم فيه من ضلال، فقد انتهت رسالة الرسل. فلا وعد ولا وعيد، ولا بشير ولا نذير.
قوله تعالى: {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ وَإِنَّا إِذا أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسانَ كَفُورٌ} أي فإن أعرض هؤلاء الظالمون المدعوون إلى الاستجابة للّه، عن قبول هذه الدعوة: {فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً} أي فإنك أيها النبي لست مرسلا إليهم لتقوم على حفظهم من شرور أنفسهم وسيئات أعمالهم: {إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ} أي ما عليك إلا أن تبلغهم رسالة ربك، وتدعوهم إليه، وتحذرهم بأسه وعقابه، وتبشرهم برحمته ورضوانه.. فإن هم استجابوا للّه، بعد أن تبين لهم الرشد من الغى، فقد رشدوا ونجوا، وإن أبوا أن يستجيبوا للّه، فليس لك أن تتولى حفظهم، وتأخذ بهم قسرا إلى طريق النجاة.. فإنه {لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ}.
وإنّ على كل إنسان أن يتولى حفظ نفسه، ووقايتها، وإقامتها على الطريق الذي يختاره لها.. وهذا ما يشير إليه قوله سبحانه: {إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ} [4: الطارق] أي ما كل نفس إلا قائم عليها حافظ، مطلوب منه أن يتولى حفظها، وهو هذا العقل الذي أودعه اللّه فيها، فإذا لم يوقظ الإنسان هذا الحارس، وينبهه إلى أداء وظيفته، ثم دخل عليه من يستبدّ به، ويستولى عليه، ويورده موارد الهلاك، فلا يلومنّ إلا نفسه.
قوله تعالى: {وَإِنَّا إِذا أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسانَ كَفُورٌ}.
مناسبة هذا لما قبله، هي أن ما سبق من قوله تعالى: {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ}.
يشير ضمنا إلى ما في بعض النفوس من فساد، لا تجد معه مساغا لطعم الخير، ولا اشتهاء له، وأن ذلك طبيعة غالبة في الإنسان، كذلك من طبيعة الإنسان أنه إذا مسته رحمة من عند اللّه، وأصابه خير- كسعة في الرزق، أو نماء في الثمر، والولد- لبسته الفرحة، وإن مسه ضر بما قدمت يداه نسى ما ألبسه اللّه تعالى إياه من نعم، ولم يعد يذكر للّه إلا هذا الضرّ الذي أصابه بما صنعت يداه.
وفى إفراد الإنسان في قوله تعالى: {وَإِنَّا إِذا أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً} إشارة إلى كل فرد من أفراد هذا الجنس البشرى- فأل هنا للجنس- إذ أن كل إنسان أيا كان- مؤمنا كان أو كافرا- يفرح بالخير إذا أصابه، ويهشّ له، وتطيب نفسه به.
أما عود الضمير جمعا على الإنسان في قوله تعالى: {وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} فذلك لأنه ليس كل إنسان في حيّز هذا الشرط وجوابه، فيكفر باللّه، أو يسيء الظن به في حال الضر، بل إن الواقعين في حيز هذا الشرط وجوابه، هم الذين لا يؤمنون باللّه مطلقا، أو لا يؤمنون به إيمانا وثيقا، مثل أولئك الذين يعبدون اللّه على حرف، كما يقول اللّه تعالى فيهم:
{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ} [11: الحج] فكثير من الناس يقفون هذا الموقف من ربهم.
إن أصابهم خير، رضوا به واطمأنوا إليه، وإن أصابهم شر بما قدمت أيديهم، أنكروا من اللّه ما كانوا يعرفون.. وقليل من الناس، وهم المؤمنون باللّه حقّا- لا تختلف حالهم مع اللّه أبدا.. فهم على إيمان به، وحمد له، في السراء والضراء على السواء.. كما يقول اللّه سبحانه وتعالى فيهم: {وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [177: البقرة].
وجواب الشرط هنا هوقوله تعالى: {فَإِنَّ الْإِنْسانَ كَفُورٌ} أي وإن يصبهم شر بما قدمت أيديهم، فهم جميعا هذا الإنسان الكافر الجحود.. وقد جيء بالجواب جملة اسمية، للإشارة إلى أن هذا الحكم ليس حدثا عارضا في مجرى حياة الإنسان، بل إن ذلك جبلّة وطبيعة فيه، وأنه إذا كان ثوب النعمة الذي لبسه حينا من الزمن قد ستر منه هذه الطبيعة- فإن الضر الذي أصابه ونزع عنه هذا الثوب- قد كشف عنه ما كان مستورا منه، فظهر على حقيقته، وهو الكفران والجحود!.
وفى قوله تعالى: {بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} إشارة إلى أن ما يصيب الإنسان من ضرّ هو من صنع يده.. كما يقول اللّه تعالى: {ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} [79: النساء].. وأنّ تبدّل أحوال الناس من نعمة وعافية إلى سوء وبلاء، هو بما كسبت أيديهم.
{ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ} [53: الأنفال].
قوله تعالى {لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ ما يَشاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ}.
ومناسبة هذه الآية لما قبلها، أن الآية السابقة أشارت إلى ما يصيب الناس من خير وشر، وقد أضافت الخير إلى اللّه سبحانه، وأضافت الضرّ إلى كسب الناس، وحتى لا يقع في وهم الناس- وخاصة من لا يعرفون اللّه ولا يقدرونه حقّ قدره- أن ما يصيب الناس من ضرّ هو مسوق إليهم من عند غير اللّه- حتى لا يقع هذا الوهم، جاء قوله تعالى: {لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ} ليدفع هذا الوهم، وليقرر أن كل ما في السموات وما في الأرض، وما يجرى فيهما من أمور- هو من عند اللّه: {قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [78: النساء].
فاللّه سبحانه يخلق ما يشاء، ويهب ما يشاء لمن يشاء.. فيعطى ويمنع، ويثيب ويعاقب.
{يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً}.
فهذا بعض تصريف اللّه فيما تتعلق به نفوس الناس، من حبّ الولد.
فبعض الناس يهبهم اللّه إناثا، وبعضهم يهبهم ذكورا، وبعضهم يهبه الذكور والإناث معا: {يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً} أي يجعلهم أزواجا، ذكرا وأنثى، لا أن يتزوج بعضهم بعضا، وقد جاء النص القرآنى: {ذُكْراناً وَإِناثاً} للإشارة إلى ما يقع في نسبة الذكور والإناث من اختلاف، عند من يرزقون الذكور والإناث.. فقد يرزق الإنسان ذكرا وأنثى، أو ذكرا وعددا من الإناث، أو عددا من الذكور وأنثى، أو أعدادا متساوية من الذكور والإناث.
وقوله تعالى: {وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً} إشارة إلى الصنف الرابع الذي تكمل به الصورة، التي يكون عليها حال الناس جميعا في هذا الرزق المقسوم من الولد.
فالناس في هذا الرزق أربعة أصناف، لا يتجاوزونها.
بعضهم يرزق الإناث، ولا ذكور، وبعضهم يرزق الذكور، ولا إناث.
وبعضهم يرزق الذكور والإناث، وبعضهم عقيم، لا يرزق ذكورا ولا إناثا.
وفى قوله تعالى: {إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ} تعقيب على هذا الرزق الذي بين يديه سبحانه، والذي يهب منه ما يشاء لمن يشاء.. فهو العليم، بما يهب، ولمن يهب، وهو القدير على ما يشاء من عطاء ومنع.. {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ} [54: الأعراف].

.تفسير الآيات (51- 53):

{وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (51) وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلا الْإِيمانُ وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) صِراطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ (53)}.
التفسير:
قوله تعالى: {وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ}.
مفهوم جديد.. للحروف في أوائل السور:
بهذه الآية، والآيتين التي بعدها، تختم السورة الكريمة.. وبهذا الختام، يتم التلاقي بين بدئها وختامها.. فقد بدئت السورة بقوله تعالى: {حم عسق كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} وختمت ببيان الصور التي يتم بها الاتصال بين اللّه ورسله، والتي يتلقّون بها كلماته وآياته.. وأن هذه الصور لا تخرج عن أحوال ثلاث.
الصورة الأولى: أن يكون ذلك الاتصال بين اللّه ورسله {وَحْياً} أي رمزا وإشارة، بحيث لا يعرف دلالة ما يوحى اللّه سبحانه به إلى الرسول- إلا الرسول وحده.
والصورة الثانية: أن يكون الاتصال بأن يكلم اللّه الرسول بكلماته التي يريد سبحانه إلقاءها إليه، وذلك من وراء حجاب، أي من غير أن يرى الرسول ذات المتكلم، سبحانه وتعالى، حيث لا يمكن أن تقع هذه الرؤية لأبصارنا المحدودة الكاملة، التي لا تتعامل إلا مع ما هو محدود، واللّه سبحانه وتعالى منزّه عن التجسد، والحدّ.. ولهذا كان قول اللّه لموسى حين قال:
{رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ}.
{قالَ لَنْ تَرانِي وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً فَلَمَّا أَفاقَ قالَ سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} [143 الأعراف].
الصورة الثالثة: أن يكون ذلك بوساطة رسول من عالم الرّوح، يرسله اللّه سبحانه وتعالى، حاملا آياته وكلماته التي أذن بها له- إلى الرسول البشرى، فيتلقاها النّبى من رسول السماء.
وقد أشرنا في أول هذه السورة، عند تفسير قوله تعالى: {حم عسق}.
إلى أن هذه الأحرف المقطعة، هي صورة من صور الوحى، وهى الصورة الأولى التي أشار إليها اللّه سبحانه وتعالى بقوله: {وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً} فهى- أي هذه الأحرف- من هذا الوحى الرمزى، الذي هو سرّ بين اللّه سبحانه وتعالى وبين رسوله صلوات اللّه وسلامه عليه..! وهذا يعنى أن هذه الأحرف معروفة الدّلالة لرسول اللّه، وإلا لما كان لوحيها إليه حكمة.. وهذا بدوره يدعونا إلى القول بأن الحروف المقطعة التي بدئت بها بعض السّور القرآنية- يجرى عليها هذا المفهوم الذي فهمنا عليه هذه الأحرف المقطعة هنا في تلك السورة.
والسؤال هنا، هو:
إذا كانت هذه الأحرف وحيا خاصا من اللّه سبحانه وتعالى إلى رسوله الكريم، لا يعرف دلالتها إلا الرسول، فلما ذا كانت قرآنا، يتلى، ويتعبد به؟ وكيف يتعبد بما لا مفهوم له؟
وقبل أن نجيب على هذا نسأل: أكان الرسول صلوات اللّه وسلامه عليه، يعرف دلالة هذه الحروف؟
والجواب على هذا بالإيجاب، وذلك من وجهين:
فأولا: في قوله تعالى في أول السورة: {حم عسق كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}.
وقد عاد اسم الإشارة إلى هذه الأحرف، وإلى أنها صورة من صور الوحى، التي يتصل فيها النبيّ بربّه جلّ وعلا.
وثانيا: في قوله تعالى: في ختام السورة: {وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ...} الآية.
إشارة إلى أن هذا الوحى هو مما كلم اللّه به نبيه.. والكلام لا يكون كلاما حتى تكون له دلالة مفهومة عند من يلقى إليه هذا الكلام.. لأن الكلام نقد متداول بين معط وآخذ، ولن تنم عملية المبادلة حتى يكون لهذا النقد قيمة معترف بها بين الطرفين، أو الأطراف المتعاملة به.. وقيمة اللغة هي في دلالتها، وفى تحديد مفهومها بين المتخاطبين بها.
فكلام اللّه سبحانه وتعالى لرسله، سواء كان وحيا، أو من وراء حجاب، أو عن طريق رسول سماوى ينقله إلى الرسول البشرى- هذا الكلام الإلهى لابد أن يكون واضح الدلالة، بيّن المفهوم عند الرسول المتلقى لهذا الكلام، قبل كل شيء.. ثم لا يمنع ذلك من أن يكون للناس- وخاصة قوم الرسول- مشاركة في هذا الفهم، على اختلاف في درجات هذا الفهم.
من الألف إلى الياء.. على حين تبقى للرسول درجة خاصة من الفهم لا يشاركه فيها غيره! ونعود إلى الاجابة على سؤالنا آنفا، وهو: إذا كانت هذه الأحرف المقطعة، وحيا خاصا من اللّه سبحانه وتعالى إلى رسوله الكريم- فلما ذا كانت قرآنا يتلى ويتعبد به؟ وكيف يتعبد بما لا مفهوم له؟
والجواب على هذا.. واللّه أعلم.. هو:
أولا: أن اختصاص الرسول الكريم، بفهم خاص، لبعض كلمات وآيات من كلمات اللّه وآياته، التي يتلقاها وحيا من ربه- ليس هذا الفهم الخاص بالذي يعزل هذه الآيات أو الكلمات عن آيات القرآن وكلماته.. إذ أن هناك آيات وكلمات، تختلف مفاهيم أهل اللغة فيها، وفى تحديد دلالتها، وهى من المتشابه الذي أشار إليه سبحانه وتعالى في قوله: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ} [7: آل عمران]- ومع ذلك فهى قرآن يقرأ ويتعبد به.
وثانيا: حكمة هذه الحروف المقطعة- وهى المتشابه- أنها دعوة إلى الايمان بالغيب، والتسليم بالتعبد بهذه الأحرف، دون أن يكون للعقل سلطان معها، بعد أن استوفى العقل حقّه، وأعمل كلّ سلطانه مع المحكم من الآيات، واستبان له- بما لا يدع مجالا للشك- أنها من عند اللّه.. فكان حمله على الإيمان بما لا مفهوم له عنده من كلمات اللّه، وإحالة ما لم يفهمه على ما فهم- كان ذلك دعوة مجددة له إلى الإيمان القائم على الولاء والتسليم المطلقين.
فذلك هو الإيمان في صميمه، وهذا ما أشار إليه قوله تعالى: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا}.
وهذا ما نجده في بعض أعمال الحج التي يقف العقل أمامها دون أن يجد لها مفهوما يلتقى مع منطقه.
كالطواف، والسعى، ورمى الجمرات، ولمس الحجر الأسود أو تقبيله.. وهذه كلها، وكثير غيرها من أعمال الحجّ، هي من الإيمان القائم على التسليم المطلق لأمر اللّه، وبمعزل عن سلطان العقل، بعد أن امتلأ القلب إيمانا ويقينا بما تلقى من العقل من إشارات مضيئة من الحجج والبراهين، أضاءت له معالم الطريق الى اللّه، وإقامته مقاما آمنا مطمئنا على الإيمان به.
وثالثا: في اختصاص الرسول صلوات اللّه وسلامه عليه بهذا العلم الذي تحمله إليه هذه الأحرف المقطعة، وغيرها من الآيات المتشابهة.. في هذا- فوق أنه مزيد فضل وإحسان من اللّه سبحانه لنبيه الكريم- هو تثبيت للنبىّ، في مقام الدعوة إلى اللّه، وفى الصبر على ما يكابد من آلام في سبيل هذه الدعوة، وما يلقى من ضرّ فيما يسوق إليه المشركون والمعاندون من كيد.
ففى هذه الأحرف، يرى الرسول- فيما أراه اللّه منها، من أنباء الغيب- الطريق الذي تسير فيه دعوته، وما يلقى على هذا الطريق من مواقع الهزيمة والنصر، وما ينتهى إليه هذا الطريق من إعزاز لدين اللّه، وانتصار لجند اللّه، وإعلاء لكلمة اللّه.. وفى هذا ما يعين الرسول الكريم على احتمال الخطوب والأهوال، حيث يجد النصر قريبا منه، يلوح له برايات الأمان، وينتظر سفينته التي تزأر من حولها الأمواج، وقد أعدلها مرفأ الأمن والسلام.
هذا، ويلاحظ أن هذه الحروف المقطعة التي بدئت بها بعض سور القرآن الكريم- قد انتظمها جميعا أمران:
الأمر الأول: أنها جاءت على رأس هذه السور.. وهذا يعنى أنها مفاتح لها، يفتح بها هذا الخير الذي تحمله كل سورة في آياتها وكلماتها من مواعظ، وأحكام.
ثم يعنى- من جهة أخرى- أنها ذات منزلة خاصة، إذ كانت وحيا مباشرا من اللّه سبحانه، على خلاف ما تلقى الرسول- صلوات اللّه وسلامه عليه- من آيات ربه وكلماته، بواسطة الرسول السماوي، جبريل عليه السلام.
الأمر الثاني، الذي انتظم هذه الأحرف، أنه قد أعقبها، واتصل بها، ذكر القرآن، تنويها به، أو بيانا لما يحمل من هدى ونور، أو إشارة إلى منّة من منن اللّه على عباده المتقين. أو قسما بجلاله وعظمته، أو تشريفا للأدوات التي تخدم هذا الكتاب، وتعمل في كتابته.
وما ورد من الحروف المقطعة في أوائل السور، هوقوله تعالى:
{الم ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ} البقرة.
{الم اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ} آل عمران.
{المص كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ} الأعراف.
{الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ} يونس.
{الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} هود.
{الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ} يوسف.
{المر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ} الرعد.
{الر كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ} إبراهيم.
{الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ} الحجر.
{كهيعص ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا} مريم.
{طه ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى} طه.
{طسم تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ} الشعراء.
{طس تِلْكَ آياتُ الْقُرْآنِ وَكِتابٍ مُبِينٍ} النمل.
{طسم تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ} القصص.
{الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} العنكبوت.
{الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ} الروم.
{الم تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ} لقمان.
{يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ} يس.
{ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ} ص.
{حم تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} غافر.
{حم تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ} فصلت.
{حم عسق كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} الشورى.
{حم وَالْكِتابِ الْمُبِينِ} الزخرف، والدخان.
{حم تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} الجاثية، والأحقاف.
{ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} ق.
{ن وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ} (ن).
هذا ويلاحظ عند النظر في هذه المفاتح.. أمور.. منها:
أولا: اشتراك بعض السور في صورة الحروف التي بدئت بها، مثل {الم} فقد بدئت بها البقرة وآل عمران والعنكبوت والروم ولقمان.
و{الر} التي بدئت بها سور: يونس وهود ويوسف وإبراهيم والحجر، و{طسم} وقد بدئت بها سورتا الشعراء والقصص و{حم} التي كانت بدءا لست سور، هى: غافر، وفصلت، والزخرف، والدخان، والجاثية.
والأحقاف.
والسؤال هنا هو: إذا كانت هذه المفاتح، تحمل دلالات خاصة، هي سرّ بين اللّه سبحانه وتعالى وبين الرسول الكريم، على هذا التأويل الذي تأولناها عليه- فكيف يتفق أن تتكرر هذه المفاتح؟ وما داعية تكرارها إذا كان السر الذي تحمله، هو في أىّ منها؟
والجواب على هذا- واللّه أعلم- هو، أن هذا التكرار في صورة الحروف، لا يعنى أن تكون محامل الأسرار فيها متماثلة من كل وجه.
وقد قلنا إن هذه الحروف، هي إشارات موحية، وإيماءات دالة.. وعلى هذا، فإنه ليس من الحتم اللازم أن تتحد الإشارتان أو الإشارات في الصورة، ثم لا يكون اختلاف في المحتوى والمضمون.. فالكلمة مثلا تختلف دلالتها باختلاف الحال المتلبس بها، والحركة بالعين أو اليد، قد تقع على صورة واحدة ولكن مفهومها يختلف، حسب تأويل المتلقى لها.. والأحلام مثلا، تتفق في صورتها ويختلف تأويلها.. حسب الأشخاص، وحسب الأحوال الشخص الواحد.
هذه صورة تقربنا من فهم ما نقول به، من أن الاتفاق في صورة الحروف المكرّرة، لا يعنى الاتفاق في دلالتها.. بل إن لكل صورة منها دلالة خاصة.. مع العلم بأن اللّه سبحانه قد وصف هذه الكلمات بأنها وحي، وأنها مما كلم اللّه به رسله، وقد قلنا إن الكلام لا يكون كلاما إلا إذا كان ذا دلالة مفهومة بين المتكلم، والمتلقى لهذا الكلام.. فكيف بكلام اللّه سبحانه وتعالى، وما يبلغه من موقع الفهم عند من يكرمه اللّه، وبكلمة بكلماته..؟
وسؤال آخر.. وهو إذا كان لكل صورة من صور هذه الحروف المكررة تأويلا خاصا، ودلالة خاصة.. أفما كان من الأولى- وفى اللغة متسع لهذا- أن يكون لكلّ دلالة صورة من اللفظ خاصة بها؟
والجواب على هذا- واللّه أعلم- أن هذا الاشتراك في اللفظ والاختلاف في المعنى، هو من مظاهر اللغة العربية التي نزل القرآن بلسانها، بمعنى أن الكلمة الواحدة قد تحمل دلالتين أو أكثر، مثل كلمة العين، التي تدل على عين الماء، والعين المبصرة.
وهذا الاشتراك ليس عن قصور في مادة اللغة، وإنما هو من بلاغة هذه اللغة وذكاء أهلها.. حيث يفرّقون في اللفظ المشترك بين المعنى الذي تقتضيه داعية الحال، وبين المعنى الذي لا مقتضى له في تلك الحال، كما أنهم إذ يأخذون بالمعنى المراد للفظ المشترك في الحال الداعية له، لا يقطعونه عن المعنى أو المعاني الأخرى التي يحملها في كيانه.
فإذا جاء القرآن الكريم مستعملا اللفظ المشترك في تلك الحروف المقطعة- كان جاريا في هذا على أسلوب اللغة التي نزل بها، وأنه كما جاء باللفظ المشترك في الوحى الموحى به بوساطة الملك السماوي، جاء كذلك في الوحى الموحى به من عند اللّه سبحانه وتعالى، بغير واسطة.. واللّه أعلم.
قوله تعالى: {وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ صِراطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ}.
الإشارة هنا إلى قوله تعالى: {أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ}.
أي وكما أرسل اللّه رسولا علويّا يوحى بإذنه ما يشاء إلى أنبيائه، كذلك أرسل هذا الرسول، إلى النبيّ الكريم، يحمل إليه من آيات ربه وكلماته، ما أذن اللّه سبحانه وتعالى به من وحي.. وفى هذا إشارة إلى الصورة الثالثة من صور الوحى، والتي كانت هي الصورة الغالبة على تلقّى رسول اللّه ما يتلّقى من وحي ربه.
أما الصورة الأخرى التي كان يتلقى فيها النبي كلمات ربه، فهى ما أشار إليه سبحانه وتعالى في أول هذه السورة بقوله: {حم عسق كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}.
فالإشارة هنا، إلى هذه الأحرف المقطعة التي تلقاها النبي- صلوات اللّه وسلامه عليه- وحيا من ربه، دون وساطة رسول سماوى.. على ما ذهبنا إليه من تأويل لهذه الآية، والذي نرجو أن يكون على منهج الحق والصواب.
والروح في قوله تعالى: {وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا} يحتمل دلالتين: أولاهما: الدلالة على رسول الوحى، وهو جبريل عليه السلام، فهو روح من عند اللّه.. كما يقول اللّه سبحانه وتعالى فيه: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ} [193- 194 الشعراء].
وثانيتهما: الدلالة على القرآن الكريم، فهو كلام اللّه.. وكلامه سبحانه وتعالى روح منه. كما يقول سبحانه وتعالى عن مريم: {وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا} [12: التحريم].. ثم يقول سبحانه عن هذه النفخة: {إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ} [171: النساء] فالنفخة التي تلقتها مريم من روح اللّه، هي الكلمة التي ألقاها اللّه سبحانه وتعالى إليها.
وهذا يعنى أن القرآن روح، من روح اللّه، وأن الذي حمله إلى الرسول روح من روح اللّه كذلك.. فهو روح، يحمله روح.. وهذا يعنى من جهة أخرى، أن القرآن الكريم حياة وروح تلبس النفوس المستعدة لاستقبالها، كما تلبس الحياة والأرواح الأجساد، بعد أن يتم تكوينها، وتصبح مهيأة لاستقبالها.. وكما أن كل جسد يلبس من الأرواح بقدر ما هو مستعدّ له، كذلك النفوس، يفاض عليها من روح القرآن، على قدر ما هي مستعدة له، ومهيأة لقبوله.
وقوله تعالى: {ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ} هو بيان لحال النبي قبل أن يتلقى رسالة السماء، وما تحمل إليه من كلمات ربه.. وأنه- صلوات اللّه وسلامه عليه- لم يكن قبل هذا التلقي يدرى شيئا عن هذا الكتاب، أي القرآن الذي تلقاه من ربه.. كما يقول اللّه سبحانه: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ} [3: يوسف] وفى قوله تعالى: {وَلَا الْإِيمانُ} ما يسأل عنه، وهو: ما الإيمان الذي كان لا يعرفه النبي قبل النبوة؟ وعلى أي دين كان يدين؟
ولا شك أن الرسول- صلوات اللّه وسلامه عليه- كان على دين الفطرة وهو دين إبراهيم عليه السلام.. فقد كان- صلوات اللّه وسلامه عليه- مؤمنا بإله واحد، قائم على هذا الوجود، متفرد بالخلق والأمر.. أما ما لم يكن يعرفه النبي من الإيمان، فهو ما يتصل بالشريعة التي تتصل بهذا الإيمان، والتي جاء القرآن الكريم مبيّنا لها.. فالإيمان: قول، وعمل.. عقيدة، وشريعة.
وقد كان النبي- صلى اللّه عليه وسلم- يعرف الجانب العقيدى، ويتعبد للّه عليه، قبل البعثة.. أما الجانب التشريعي، فلم يكن يعلم منه شيئا إلى أن تلقاه وحيا من ربه، في أحكام الصلاة، والزكاة، والصوم، والحج، وفيما أحل اللّه، أو حرم.
فنفى علم النبي بالإيمان قبل الوحى، ليس على إطلاقه، وإنما هو نفى لتمام العلم بالإيمان كله، عقيدة وشريعة.
قوله تعالى: {وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا}.
الضمير في جعلناه، يعود إلى الروح الموحى به من أمر اللّه، أو إلى الكتاب.
وفى قوله تعالى: {جَعَلْناهُ نُوراً} إشارة إلى ما يحمل القرآن من هدى ونور، يكشف معالم الطريق إلى اللّه.
وفى قوله تعالى: {نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا} إشارة أخرى إلى أن هذا النور، لا يهتدى به إلا من شاء اللّه سبحانه وتعالى له الهداية من عباده، فهو رزق من رزق اللّه، {وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ} وفى قوله سبحانه: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ} إشارة ثالثة إلى أن الرسول- صلوات اللّه وسلامه عليه- هو نور من هذا النور، وأنه معلم من معالم الحق، يهدى إلى الحق، وإلى طريق مستقيم، وذلك في سنته القولية والعملية.. وهذا يعنى أن السنة المطهرة- قولية وعملية- هي من هذا النور السماوي.
وقوله تعالى: {صِراطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ} هو بدل من {صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ} أي أن هذا الصراط المستقيم الذي يهدى إليه الرسول من شاء اللّه سبحانه وتعالى لهم الهداية من عباده- هذا الصراط، هو صراط اللّه، ودينه القويم، الذي رضيه لعباده، كما يقول سبحانه:
{وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [153 الأنعام] وقوله تعالى: {أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ} تعقيب على ما تقرر في قوله تعالى: {الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ} وهو أنه سبحانه- بما له من سلطان مطلق في هذا الوجود كله، في أرضه وسمائه- يردّ إليه كل أمر، ويرجع إليه كل شيء.. فلا يقع أمر إلا يإذنه، وعلمه وتقديره. {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ}.